17 - 07 - 2024

مؤشرات | قلوبنا مع "آهات" مرضى مصر الفقراء

مؤشرات | قلوبنا مع

على مدى السنوات الثلاثة الأخيرة خضت تجربة صحية مهمة دفعتني إلى التردد على المستشفيات العامة والخاصة، وعيادات أطباء ومستشفيات وعيادات التأمين، لمتبعة حالات مرضية خاصة وعائلية، ومازالت المتابعة مستمرة، والتقيت عشرات، بل مئات المرضى من كل المستويات الإجتماعية.

وكانت تلك السنوات بمثابة الإقتراب أكثر من أوجاع المصريين، والتعرف على همومهم، خصوصًا في المستشفيات الحكومية والتأمين الصحي، وحتى في الخاص منها، وأدركت أن كلمة "آه" لها مدلولات كثيرة، ليس من آلام وأوجاع الأمراض فقط، بل من ضيق ذات اليد إذا ما كان العلاج يتطلب نفقات تفوق ما في الجيوب، والتي في الأساس خاوية بفعل الغلاء الذي نحياه جميعًا.

وفي ظل هذا يلجأ جمهور الناس الأغلب إلى مستشفيات الدولة، وعيادات ومستشفيات التأمين الصحي، أملاً في علاج يناسب حالاتهم الإقتصادية، وشكاوي لناس كثيرة ومتنوعة، ولا تخفي على أحد في بلادنا، ولا يمكن إنكار أن العلاج في هذه النوعية من المستشفيات مازال الملجأ الوحيد ليخفف من آهات الناس.

من هنا وضعت يدي على قلبي - وما زلت - عندما بدأ البرلمان مناقشة ثم إقرار قانون تنظيم منح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية، أو ما هو معروف إعلاميًا، بمنح القطاع الخاص حق "إدارة وتشغيل المنشآت الصحية "، نظرا لكون القرار يمس الغالبية العظمى من المواطنين.

ولا يمكن إنكار أن قطاع الخصخصة يسير في كل الإتجاهات، بما في ذلك قطاع الصحة، وان ما يجري على أرض الواقع هو بمثابة خروج للدولة من كل القطاعات، بما في ذلك قطاع الصحة، وإن إستخدمنا كلمات تجميل، مثل تطوير منظومة الصحىة، والإستعانة بالخبرات الدولية في القطاع، واستقطاب الكفاءات.

كل هذا جميل، ولكن هناك التزام للدولة مع المؤسسات المالية الدولية، لدعم القطاع الخاص في طل القطاعات، وهذا مطلوب ولا نختلف عليه، إلا أنه عندما يمس القطاع الصحي والتعليمي، وعير ذلك نضع أيدينا على قلوبنا خشية من القادم، لأنه سيمس ما تبقى من دور الدولة في الخدمات, هموم وآهات وأوجاع وآلام وإحتياجات الناس اليومية، والكهرباء والمياه والمنتجات البترولية خير مثال.

وفي التفاصيل حول قانون، منح القطاع الخاص حق "إدارة وتشغيل المنشآت الصحية "، سيظل الجدل الذي بدأ مع طرح القانون للنقاش، والذي كان يحتاج بالفعل إلى حوار مجتمعي حقيقي، بسبب عدم الشفافية في الضمانات لحماية حقوق هذا الحشد من المرضى، خصوصا مع تحويل المنشآت الطبية الحكومية إلى كيانات هادفة للربح وهو ما يهدد حق المواطنين غير القادرين في تلقي الرعاية الصحية، بعكس ما تعلنه الحكومة من أن القانون يهدف إلى تحسين جودة خدمات المستشفيات العامة.

وفي تقرير مهم لوحدة عدسة بمركز "حلول للسياسات البديلة"، بالجامعة الأمريكية، رصد تحفظات على مفهوم إدارة خاصة غير مشروطة، منها أن القانون لم يتضمن شروطًا واضحة لتسعير الخدمة الصحية في حال نقل إدارة هذه المنشآت إلى القطاع الخاص، ما يترك الباب مفتوحًا أمام المستثمر لرفع الأسعار من أجل تحقيق أعلى عائد، خصوصًا أن المنشآت الطبية التابعة لوزارة الصحة حوالي 80% من إجمالي المستشفيات الحكومية التي من المفترض أن تقدم خدماتها مجانا أو بأسعار رمزية، وبالرغم من أن المستشفيات الخاصة في مصر هي الأكثر من حيث العدد، إلا أن المستشفيات الحكومية تخدم أكثر المرضى. 

ولاشك أن بداية تدشين الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الخدمات الصحية، فإن النص القانوني  لم يتطرق بشكل واضح إلى آليات تنفيذ هذه الشراكة المعمول بها في الدول الأخرى، وأهمها أن تكون قيمة الإنفاق الشخصي على العلاج في المستشفيات العامة أقل أو مساوية لما كان عليه الحال قبل طرح إدارتها للقطاع الخاص. 

ومن المتوقع أن يزيد العبء المالي على المواطنين، خاصة وأن الإنفاق الشخصي يمثل بالفعل حوالي 60% من إجمالي الإنفاق على الصحة. 

ورغم النصوص القانونية التي تم إضافتها على القانون فإن المجهول هو مصير الأطباء وأطقم التمريض ومختلف العاملين في تلك المنشآت العامة في حال قرر المستثمر الخاص تقليل العمالة من أجل تضخيم العائد المالي، وقد تكون الهجرة مصيرهم.

ويتفق التحليل مع ما نخشاه، من أن القانون يمثل امتدادًا لسياسات حكومية تهدف إلى تقليص الإنفاق العام على الصحة، فمنذ عام 2016 لم يتجاوز الإنفاق الحكومي الحقيقي على القطاع الصحي كنسبة من الناتج المحلي 1.6%، في مخالفة صريحة للدستور المصري الذي ينص على ألا تقل هذه النسبة عن 3%. 

والحق يقال وطالما تسير الحكومة مع قطاع الخصخصة وما يستتبعها، من خلال توسيع الشراكة في القطاع الصحي بين ما هو عام وخاص، فيجب أن تتضمن الضوابط لحماية طوابير المرضى "الغلابة" بفرض آليات تسعير واضحة تضمن تخفيض عبء الإنفاق الشخصي على الصحة، على أن يتم إسناد إدارة المنشآت إلى القطاع الخاص من خلال عملية إدارية واضحة وشفافة تقوم من الأساس على المناقصات.

والأهم التزام الحكومة بما يقره الدستور المصري ورفع مخصصات الصحة في الموازنة حتى يمكن تطوير الخدمات المقدمة وزيادة عدد الأسِرَّة في المستشفيات العامة التي مازالت تخدم أغلبية المواطنين بالأخص غير المقتدرين منهم، وإنشاء مستشفيات عامة جديدة تقدم خدمات صحية حسب المعايير الدولية لكل مواطن.

فقراء مصر من المرضى في رقبة الجميع دولة وحكومة ومؤسسات برلمانية، وصحافة وإعلام، حتى لا تزداد (آهات) المتألمين من أوجاع الأمراض،.. وحماكم الله من شرور الأمراض، ومقولة "أه أنا تعبان ومش قادر أتعالج".
--------------------------------
بقلم: محمود الحضري

مقالات اخرى للكاتب

مؤشرات | أفسحوا المجال للإبداع والإبتكار عربيًا